بحث يقدمه// راتب هلال
ما بين الدين والفكر الدينى تشردت كثير من العقول واغتيلت آراء وقصفت أقلام .في مجتمع متعدد الثقافات نخرالسوس في جذوره فأصبح هش العود قابل للكسر عند أضعف عاصفة .ما أحوجنا لفكر تنويرى يعيد اللون الأخضر يبعث حياة علي وشك الانحدار .
…
في ذكرى إغتيال شهيد الكلمة ومدنية الدولة فرج فودة، في 8 يونية 1992 أبعث إليه برسالة إلى العالم الآخر، لأقول له كم نحن في حاجة ماسة إليك وإلى فكرك التنويري اليوم، لتصلح لنا ما أفسدته يدانا، فما أضيق فكرنا وما أضعف إيماننا. بل أين نحن الآن من الفكر الإصلاحي الذي كان إلى وقت قريب، جمال الدين الأفغاني ورفاعه الطهطاوي والكواكبي والإمام محمد عبده وشيوخ المنابر الأزهرية الأولين في عصر التنوير وإصلاح الفكر الديني والفهم الخاطئ للدين، ونشرهم لثقافة تنويرية حقيقية في عصر لم تكن خدمة توصيل الكلمة متاحة كما نحن عليه الآن من سرعة إنتشارها عبر وسائل الإنترنيت. فهناك فرق بين “الدين المقدس” وبين” الفكر الديني وهو غير المقدس”، فخلط الناس بين المفهومين ما جعل الناس تترك الدين نفسه لتتعبد بالفكر الديني والذي هو نتاج فكر إجتهادي بشري قد يحمل الصواب وما أكثره خطورة حين يحمل المفاهيم الخاطئة، وكارثته هنا حين يتفشى الفكر الخاطئ المتطرف أكثر من الفكر المعتدل المتسامح ! وفي وقت نبحث فيه عن تجديد الفكر الثقافي الذي هو مبنياً على تجديد الخطاب الديني بالدرجة الأولى، فالدين هو الجزء الأهم والأكبر والأخطر في حياة وثقافة وذاكرة شعوب تحمل سماتها التدين في حياتها اليومية. فمن يقوم بهذه المهمة الصعبة والتي تعد مهمة مستعصية رغم أن حلها ليس مستعصياً ؟!
وهل التجديد في مفهومه الشامل يعني ترك التراث الديني القديم برمته أم تنقيته من الشوائب الدخيلة وتنقيحه بما يتماشى مع حاضرنا؟ تلك الشوائب التي كانت السبب المباشر في إحداث تغيرات جذرية في السلوكيات العامة للمجتمعات العربية، خصوصاً في مصر. لما وصل بنا الحال إلى أن تتعرى مصر يوم أن أجهزت الذكورة على هتك عرض الحياء بتعرية أجساد نسائها، فعرّت عورة فكرنا البائس، و بأن غش الطلبة في الإمتحانات لا يفطِّر الصائم، و أن ربنا لن يغضب منا إن دخلنا الحمام بالقدم اليسرى أو سيسألنا عن سلوكياتنا الطبيعية داخل هذا الحمام؟ ربنا ليس في حاجة للسياسة ولا للأوطان،ولم يطالبنا بإقامة دولة لتحمي له الدين، فالقيم الدينية الصحيحة وحدها قادرة على أن تحمي نفسها بنفسها وتطرد كل ماهو دخيل عليها. فما يهمه القيم الأخلاقية التي يحفظها ويوقرها قلب الإنسان، فهو ليس بحاجة لأن يَقتل الإنسان لأجل أن يعرِّف أخيه الإنسان الطريق إلى الله!
هل يستطيع علماء الدين اليوم أن يصدروا فتوى بتحريم وتجريم إغتيال فرج فودة كما أصدروا فتوى بأن داعش من جماعة المؤمنين؟!، ونحن نعلم أن إغتيال فرج فودة بعد آخر مناظرة شهيرة له والتي كانت سبب مباشر في إغتياله نتيجة تحريض جبهة علماء الأزهر!. بل وصل الأمر إلى إصدارهم بيانًا، نشرته مجلة النور فى عام 1992 – وقبل اغتيال فرج فودة بأسابيع – كفّرت فيه “فودة” وأعلنت وجوب قتله، وحرّضت على عملية القتل. وبدأت الخطوات التخلص من فرج فودة من جبهة علماء الدين، بترتيب مناظرة ضمن فعاليات معرض الكتاب فى عام 1992، وهي مسجلة في أجزاء على اليوتيوب تحت عنوان “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية”، ومثل فيها الدولة المدنية: فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله، ضد الدولة الدينية التي مثلها الدكتور الأزهري الإخواني محمد الغزالى والمستشار الإخواني مأمون الهضيبي المرشد العام لجماعة الإخوان ، والدكتور محمد عمارة المعروف بآرائه المتشددة. وخلال المناظرة تم التحريض علنية ضد فرج فودة وإتهامه في دينه وفي عقيدته لشحن الرأي العام ضد أفكاره التي هددت مضاجعهم وكراسيهم.
فعندما سألوا قاتل فرج فودة لماذا قتلته وهل تعرفه؟! أجاب أنه لا يعرف الرجل ولم يقرأ كتبه لأنه لا يعرف القراءة والكتابة ،ولكنه خضع للسمع والطاعة لأولي الأمر، وبعد إرتكابه الجريمة صرح قبل إعدامه بأن حبل المشنقة طريقه للجنة وأن ما فعله شهادة في سبيل الله ! وخلال شهادة الغزالى أمام النيابة، قال : “إنهم قتلوا شخصًا مباح الدم ومرتدًّا، وهو مستحق للقتل، وقد أسقطوا الإثم الشرعى عن كاهل الأمة ” – مسئولية تجديد الخطاب الثقافي والديني اليوم ليست مسئولية شيوخ وخطباء المنابر، فأغلبهم قد أصابه نفس الفيرس المدمر الذي أصاب أغلب طوائف وفئات المجتمع ونحتاج اليوم إلى إعادة تأهيل ثقافي وديني. بل هي مسئولية ملقاة على عاتق كل فرد وكل مواطن بالمجتمع بدءاً من رب الأسرة وخصوصاً الأم إلى مسئولية معلم المدرسة إلى خطباء الدين فوق منابرهم.
فلكي تهدم حضارة مجتمع عليك بهدم ثلاثة أركان أساسية بهذا المجتمع: اهدم أسرة بتغييب دور الأم، اهدم المنظومة التعليمية بإسقاط هيبة المعلم وتحقيره، ثم عليك بإسقاط القدوات في المجتمع والممثلة في العلماء والتنويريين وتتفيه مكانتهم والتشكيك فيهم حتى لا يسمع لهم أحد ولا يقتدي بهم.. فكيف أخبر الطفل أن يثق في تربية أمه له من قيم وأخلاقيات وقد علمه مدرس الفصل وشيخ المسجد أن المرأة ناقصة عقل ودين وأنها عورة وأنها أشد فتنة من الشيطان على الرجل؟!. كيف أعلمه: كاد المعلم أن يكون رسولاً، وهو يرى معلمه يهان ويُضرب وسط طلبة الفصل، ليسقطوا صورة” رسول الكلمة وحاملها” ومعه تسقط هيبة وقيمة التعليم نفسه في نظر أطفالنا! كيف أعلم طفلي أن الدين يسمو بالأخلاقيات وينشيء المبادئ ويقوِّم الضمير، ولكنه الدين الذي لا يصلح لأن يصنع دولة ومفهوم الوطن والمواطنة الصحيحة؟! كيف أنمي لديه الحس الوطني والشعور بالإنتماء، ومازال الوطن يحمل بطاقة هوية و خانة الديانة التي تميِّز بين مواطنيها؟!
محتاجين لأن نقرأ تاريخنا لنعرف أين نقف من هذا العالم. لنرى كيف تقدمت دول أوروبا حين نادت شعوبها أثناء مرحلة النهضة التنويرية، و وعت الدرس بضرورة فصل الكنيسة والكهنوت عن الدولة وعن المنظومة السياسية. فمتى نعلِّم أولادنا أن يقرأوا ليعرفوا تاريخنا وتاريخ الغرب! فأي تجديد فكري وتنويري حقيقي يبدأ بالبحث عن مفهوم فصل الدين عن الدولة، وهي عملية ليس مستعصية، فهي مسئولية فردية تبدأ بالأم فالمعلم ودور خطيب المسجد وكاهن وخادم الكنيسة، ثم يأتي الدور الحساس للمنظومة الإعلامية والتي للأسف بدلاً من أن يقودها التنويريين الحقيقيين وأصحاب الأقلام، سيطرت عليها أصحاب الإنتماءات والتيارات السياسية الدينية لغيّيب عقول و وعيِّ الشعب، فتغلغل الفساد داخل المؤسسات الحكومية وأصبحوا متحكمين في المطبخ السياسي المتحكم في فكر الأفراد بدءاً من دخوله الحمام إلى النوم على جانبه اليمين إنتهاءاً بلعنة الملائكة للمرأة بفِراشها ليلاً !
الجميع يتحدث عن تجديد الخطاب الثقافي والديني ولكن لم يقل أحدهم كيف يحدث هذا التجديد؟ فالجميع ينتظر أن يبدأ غيره هذه المسئولية تخوفاً على مناصبهم وكراسيهم ومصادر رزقهم! ولم يفكر أحدهم كيف الرجوع للدين المتصوف في بساطته وتسامحه كما كان الحال قبل إنتشار الدين الأيدولوجي الدخيل والذي هبت علينا رياحه مع ثقافة الرمال الصحراوية الصفراء!
كيف نعيد تأهيل الأئمة وخطباء المساجد في علوم الفقه وأصول التشريع والأهم قراءة التاريخ الخلافي ومساوئ حكامه خصوصا الخلافة العثمانية التي حين أصبحت رجل أوروبا المريض بدأت بعد إنهيارها المنظومة الدينية الأيدلوجية في الظهور و التي مولتها بعض دول أوروبا كبريطانيا وألمانيا، تلك الأيدلوجية التي قال عنها السياسي الصهيوني النمساوي ثيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة، والذي تُنسب إليه مقولة: ” ذات يوم سنُولي على العرب سفلة قومهم حتى تخرج فيه الشعوب العربية بالورود و الرياحين لإستقبال الجيش الإسرائيلي “، ففي مرحلة الإنهيار الأخير للخلافة العثمانية بدأت عملية تقسيم الدول العربية وإقرار إنشاء وطن لليهود بالإتفاق المبطن مع بعض حكام جزيرة العرب وملوك سوريا والأردن والعراق أثناء إتفاقية سايكس بيكو 1916. والتي كان لبريطانيا وألمانيا اليد الطولى في الدعم المالي لهذه الأيدلوجية الدينية لتيارات الإسلام السياسي عند تأسيس مملكة الحجاز 1925، مواكبة مع الثورة السورية الكبرى، و سأكتب عن كيفية ظهور هذا التيار السياسي المتطرف مقالاً منفصلاً وكيف بدأت هذه الأيدلوجية في تلك الفترة تحديداً.
ثم في 2006 جاء تصريح جيمس وولسي الرئيس الأسبق لوكالة المخابرات الأمريكية CIA : “سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، ثم يتم إنقسامهم على بعض لنعرات تعصبية.. ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر”.!
فهل نقرأ التاريخ لنعرف من أين سقطنا ومن أين نقوم ونقوِّم سقطاتنا بفكرنا . وأن الاديان ليست أيدلوجية سياسية؟ حتى أصبحنا نعيش الآن فيما “يشبه الدولة الدينية” فهي أبعد ما تكون عن المدنية و العلمانية، و أقرب ماتكون إلى الدينية . أختم مقالي بكلمة لشهيد التنوير و حواره حول العلمانية بقوله: “الدولة الدينية سوف تكون مدخلاً لتمزق الوطن الواحد، وبمعنى أدق إلى وضع داخلي تصبح فيه الفتنة الطائفية حلماً بالمقارنة بما سوف يحدث إذا سيطر أنصار الدولة الدينية على الحكم في مصر ” .
فمتى تنتصر الحياة لإنسانيتنا لا لديانتنا ولا عرقياتنا، فالإنسان في النهاية هو الغاية من الأديان ودائما ما أقول، خُلق الإنسان قبل الأديان، والأديان لا تخضع لمنظومة أيدلوجية بل وُجدت لخدمته والسمو بأخلاقياته كقيمة تعلِّي من شأنه لا لقتله !.